الاثنين، 14 يوليو 2014

"علي حواس".. وداعاً


الراحل عن الدنيا الخالد في أرواحنا "علي حواس"


مثل بدايات الصباح.. كانت علاقتي به شفافة ورقيقة. لم يعجبه أن يرانا أنا وأشقائي ننتظر من يقلنا إلى البيت بعد يوم دراسي طويل
 فكانت بداية علاقتنا الخالدة معه,  تطوع لأن يركبنا معه في سيارته إلى المنزل, ولأنه معلم في مدرستنا لم نتردد على تلبية دعوته, وسألنا من يوصلكم للبيت عادةً؟ أخبرناه بأنه مدير المدرسة قد وكله والدي بهذه المهمة التي قبلها برحابة صدر لعلمه بأنه يصعب توفير المواصلات  في تلك الفترة ولأن أبنائه زملاء لنا أيضاً  على مقاعد الدراسة. مر بنا على مطعم يقدم الوجبات البحرية وعزمنا على وجبة غداء عبارة عن "مكشن سمك" ورغيف  خبز ساخن ومشروبات باردة, وبعدها واصلنا طريقنا  للبيت وودعنا بود وابتسامة. كان ذلك أول لقاء جمعني ب"علي حواس" المعلم الذي يعمل في مدرستنا معلماً للصفوف الأولية. أحببناه أنا وأشقائي من أول لقاء. كان يجيد صناعة النكته  والضحك والفرح, يقود السيارة بطريقة ساخرة متعمداَ إضحاكنا, ولكنه لا يضحك, يبتسم فقط, ويستعد لصناعة نكته جديدة وضحكات جديدة وأفراح. بعد عودة والدنا للمنزل أخبرناه أنا وأشقائي بأن المدير خرج مبكرا من المدرسة على غير العادة وعلى ما يبدو بأن لديه ظرف طارئ  وتطوع المعلم  "علي حواس" لأن يذهب بنا إلى المنزل, وحين سألنا من هو هذا المعلم أكتفينا بأنه معلم للصفوف الأولية ويجيد إعادة الحياة لفطرتها الأولى إثر عفويته وروحة السليمة من العقد, في اليوم التالي ذهب والدي للقائه وشكره على نبله وكرمه فوقع أبي في حبه مثلما وقعنا أنا وأشقائي, ولأنه كان يتحدث ببساطة دون تكلف كنا مثل كل طلاب المدرسة نحبه ونتعامل معه بعفوية ودون تصنع, يبتسم بسخاء, ويحاول أن يساعد الجميع, وأرتفع بعطائه وكرم روحه حتى أصبح علماً  كلنا نفخر  بشموخه  ونعتز به ونتقرب له. لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يوصلنا فيها للمنزل تبعتها مرات عديدة, وفي كل مرة نكون معه لا نصل إلى المنزل إلا وقد ضحكنا بما فيه الكفاية , كان  ناجح للغاية في  إضفاء الكثير من الطرافة  على حركاته, وطريقته في الحديث معنا وكأنه يعاهد نفسه أن يمنحنا سعادة تكفينا ليوم كامل, بعد كل مرة يوصلنا للمنزل تتأصل صداقته بوالدي وجدي وخالي حتى أصبح يزورنا في البيت باستمرار, وأصبح هو ووالدي وخالي يتشاركون الرحلات والسفر  حتى تفاجئنا يوما ما ودون مقدمات بتقدمه لخطبة "خالتي" وبمباركة من الجميع وأولهم أنا وأشقائي الذين قفزنا فرحاُ بأن "علي حواس" سيصبح خالاً لنا بعد أن كنا فقط نتمنى مجرد الجلوس معه, توالت الأفراح بعد ذلك, وقام جدي بفسح أرض له ملاصقة لبيته فقام "علي حواس"  بتصميم المنزل بحيث يكون هناك الكثير من الأبواب والنوافذ التي جعلت منزله ومنزل جدي وكأنه بيت واحد, و انسجما معاً حتى فاض حبه بقلوبنا وفاض كرمه وعطائه  علينا, كان كريماً بروحه مع الجميع فكيف  بكرمه مع خالتي وهي التي وهبته المبدعة والشاعرة "مها" وسمية وفاطمة ومحمد وعبدالله وباسم, كنت في كل مرة أعود لقريتي أنسى بأن "علي حواس" كان مجرد معلم يوصلنا للمنزل, كنت أشعر بأنه أخي الأكبر أو خالي الشقيق لوالدتي, أتعمد البحث عنه لأني أطمئن إليه إلى ابتسامته ووقاره, أبحث عنه هرباً من العبوس إلى الفرح والسعادة  والأنباء الجميلة ولأني بحاجة أن أعيش يوماً دون عقد, وكثيرا ما أنجح في العثور عليه  رغم كثرة أحباؤه ومداومته على الترحال والسفر؛ ويكاد لا يستقر لولا التزامه بعمله.
عندما عدت هذه المرة إلى قريتي لم أجده, أخبرني الجميع عن مكانه وقدموا لي الدعوات للذهاب إليه ولكني لم أحتمل فكرة أن أراه وهو مشرنق في كفنه الرطب, دعاني أبي لأن نذهب نقبل جبينه قبل الذهاب به إلى قبره  ولبيت دعوة والدي بتردد ووجل وحين حان دوري خرجت وتركته تحول بيننا غمامة. سامحني يا علي حواس فأنا لا أجيد الوداع  ولا  أحتمل فكرة  أن أرى وجهك للمرة الأخيرة وأنا الذي مازال عالقاً بقلبي فرحاً صنعته أنت, سامحني لأني لا أجيد مراسم التشييع, و لم أستقبلك في قلبي إلا حبيباً  يمكث للأبد دون رحيل, وحتى إن عدت لقريتي ولم أجدك فإني مؤمن بأنك هنا تصنع الفرح رغم الغياب, تصنعه عبر "المها" أبنتك البكر التي استقبلت نبأ رحيلك بسجدة تهديك فيها الفرح بغرسك وثمرة تربيتك الصالحة, أستطيع أن أرى مستقبل  أبنائك من الأبواب المشرعة للنجاح والفخر, والستائر التي لا يواريها الظلام, رحل الكثير ممن أحبهم ولكن رحيلك يا "علي حواس"  جعلني أؤمن بأن فلسفة الموت عصية وصلبة, وتحرث الصدر بثيران شرسة  لا تخلف سوى أشجار وارفة بمرارة الرحيل.

هناك تعليقان (2):

  1. الله يرحمه والله لقد أدمعت عيوننا ونزفت قلوبنا ألما ونحن لا نعرفه تغمده الله بواسع رحمته وصبر الله أهله وأقاربه وجميع المسلمين على فراقه

    ردحذف
  2. الله يرحمه ويسكنه فسيح جناته وان يجبر كسرنا لفقده

    ردحذف